أكثر الأمم دخلوا الإسلام طوعا واختيارا لا إكراها

قال العلامة ابن القيم رحمه الله في كتابه هداية الحيارى ص22: إن أكثر الأمم دخلوا في الإسلام طوعًا ورغبة واختيارًا لا إكراهًا ولا اضطرارًا، فإن الله سبحانه وتعالى بعث محمدًا ﷺ رسولاً إلى أهل الأرض وهم خمسة أصناف طبقوا الأرض؛ يهود ونصارى ومجوس وصابئة ومشركون. وهذه الأصناف هي التي كانت قد استولت على الدنيا من مشارقها إلى مغاربها. فأما اليهود فأكثر ما كانوا باليمن وخيبر والمدينة وما حولها وكانوا بأطراف الشام مستذلين مع النصارى، وكان منهم بأرض العرب فرقة، وأعز ما كانوا بالمدينة وخيبر، وكان الله سبحانه قد قطعهم في الأرض أممًا وسلبهم الملك والعز. وأما النصارى فكانوا أطبقوا الأرض فكانت الشام كلها نصارى، وأرض المغرب كان الغالب عليهم النصارى، وكذلك أرض مصر والحبشة والجزيرة وأرض نجران وغيرها من البلاد. وأما المجوس فهم أهل مملكة فارس وما اتصل بها، وأما الصابئة فأهل حران وكثير من بلاد الروم. وأما المشركون فجزيرة العرب جميعها وبلاد الهند وبلاد الترك وما جاورها. وأديان أهل الأرض لا تخرج عن هذه الأديان الخمسة، ودين الحنفاء لا يُعرف فيهم البتة. وهذه الأديان الخمسة كلها للشيطان كما قال ابن عباس وغيره: الأديان ستة واحد للرحمن وخمسة للشيطان، وهذه الأديان الستة هي المذكورة في قوله تعالى: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلصَّبِ‍ِٔينَ وَٱلنَّصَٰرَىٰ وَٱلۡمَجُوسَ وَٱلَّذِينَ أَشۡرَكُوٓاْ إِنَّ ٱللَّهَ يَفۡصِلُ بَيۡنَهُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ شَهِيدٌ ١٧﴾ [الحج: 17]. فلما بعث الله رسوله استجاب له ولخلفائه من بعده أكثر أهل هذه الأديان طوعًا واختيارًا ولم يكره أحدًا على الدين، وإنما كان يقاتل من يحاربه ويقاتله، وأما من سالمه وهادنه فلم يقاتله ولم يكرهه على الدخول في دينه امتثالاً لأمر ربه سبحانه حيث يقول: ﴿لَآ إِكۡرَاهَ فِي ٱلدِّينِۖ قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشۡدُ مِنَ ٱلۡغَيِّ﴾ [البقرة: 256]. وهذا نفي في معنى النهي؛ أي لا تكرهوا أحدًا على الدين، نزلت هذه الآية في رجال من الصحابة كان لهم أولاد قد تهودوا وتنصروا قبل الإسلام، فلما جاء الإسلام أسلم الآباء وأرادوا إكراه الأولاد على الدين، فنهاهم الله سبحانه وتعالى عن ذلك حتى يكونوا هم الذين يختارون الدخول في الإسلام، والصحيح أن الآية على عمومها في حق كل كافر، وهذا ظاهر على قول كل من يُجوّز أخذ الجزية من جميع الكفار، فلا يكرهون على الدخول في الدين، بل إما أن يدخلوا في الدين وإما أن يعطوا الجزية كما يقوله أهل العراق وأهل المدينة، وإن استثنى هؤلاء بعض عبدة الأوثان. وكل من تأمل سيرة النبي ﷺ تبين له أنه لم يكره أحدًا على دينه قط، وأنه إنما قاتل من قاتله، وأما من هادنه فإنه لم يقاتله ما دام مقيمًا على هدنته ولم ينقض عهده، بل أمره الله أن يفي لهم بعهدهم ما استقاموا له، كما قال تعالى: ﴿فَمَا ٱسۡتَقَٰمُواْ لَكُمۡ فَٱسۡتَقِيمُواْ لَهُمۡ﴾ [التوبة: 7]. ولما قدم المدينة صالح اليهود وأقرهم على دينهم، فلما حاربوه ونقضوا عهده وبدؤوه بالقتال قاتلهم، فمنّ على بعضهم وأجلى بعضهم وقتل بعضهم. وكذلك لما عاهد قريشًا عشر سنين لم يبدأهم بالقتال حتى بدؤوا بقتاله ونقضوا عهده، فعند ذلك غزاهم في ديارهم وكانوا يغزونه قبل ذلك، كما قصدوا يوم أحد ويوم الخندق ويوم بدر. والمقصود أنه ﷺ لم يكره أحدًا على الدخول في دينه البتة وإنما دخل الناس في دينه اختيارًا وطوعًا، فأكثر أهل الأرض دخلوا في دعوته لما تبين لهم الهدى وأنه رسول الله حقًّا، فهؤلاء أهل اليمن كانوا على دين اليهودية ثم دخلوا في دين الإسلام من غير رغبة ولا رهبة، فلم يسلموا رغبة في الدنيا ولا رهبة من السيف، بل أسلموا في حال ضعف المسلمين وكثرة أعدائهم ومحاربة أهل الأرض لهم من غير سوط ولا نوط، بل تحملوا معاداة أقربائهم وحرمانهم نفقتهم بالمال والبدن، فكان أحدهم يعادي أباه وأمه وأهل بيته وعشيرته ويخرج عن الدنيا رغبة في الإسلام لا لرئاسة ولا لمال، بل ينخلع من الرئاسة والمال ويتحمل أذى الكفار من ضربهم وشتمهم وصنوف أذاهم ولا يصرفه ذلك عن دينه. وهؤلاء نصارى الشام كانوا ملء الشام ثم صاروا مسلمين إلا النادر، وكذلك المجوس كانت أمة لا يحصى عددهم إلا الله، فأطبقوا على الإسلام ولم يتخلف منهم إلا النادر وصارت بلادهم بلاد إسلام وصار من لم يسلم منهم تحت الجزية والذلة، فرقعة الإسلام إنما انتشرت في الشرق والغرب بإسلام أكثر الطوائف حيث دخلوا في دين الله أفواجًا، حتى صار الكفار معهم تحت الذلة والصغار، وقد تبين أن الذين أسلموا من اليهود والنصارى والمجوس والصابئين أكثر من الذين لم يسلموا، وأنه إنما بقي منهم على الكفر أقل القليل. انتهى كلام العلامة ابن القيم رحمه الله.
الشيخ عبدالله بن زيد آل محمود رحمه الله
مجموع الرسائل - الملحق بكتاب الجهاد المشروع في الإسلام - المجلد (3)