الرد على استدلال الشيخ عبد العزيز بكلام ابن تيمية
قال الشيخ عبد العزيز، فيما نقله عن شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية رحمه الله قال بعد كلام سبق له: «فالنبوة داخلة في الرسالة والرسالة أعم من جهة نفسها وأخفى من جهة أهلها، فكل رسول نبي وليس كل نبي رسولاً، والنبوة نفسها جزء من الرسالة، فالرسالة تتناول النبوة وغيرها، بخلاف النبوة فإنها لا تتناول الرسالة».
ثم نقل عن شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- قائلاً: «والنبي هو الذي ينبئه الله وهو ينبئ بما آتاه الله، فإن أرسل مع ذلك إلى من خالف أمر الله ليبلغه رسالة الله فهو رسول. وأما إذا كان يعمل بالشريعة قبله ولم يرسل هو إلى أحد يبلغه عن الله رسالة ربه فهو نبي وليس برسول. قال تعالى: ﴿وَمَآ أَرۡسَلۡنَا مِن قَبۡلِكَ مِن رَّسُولٖ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّآ إِذَا تَمَنَّىٰٓ أَلۡقَى ٱلشَّيۡطَٰنُ فِيٓ أُمۡنِيَّتِهِۦ﴾ [الحج: 52]».
فالجواب: أن نقول: إننا متى كنا على الحق ولدينا الدلائل العقلية والنقلية من الكتاب والسنة لصحة ما نقول؛ فإننا لن نتخلى عنه لقول أحد كائنًا من كان، إذ الحق فوق قول كل أحد.. وقد اتفق العلماء على أن كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله ﷺ، كما اتفقوا أيضًا على أنه لا يترك حق لانفراد قائله، كما لا يقبل باطل لكثرة ناقله، وقد سمى الله نبيه إبراهيم أمة وحده؛ لأن من كان على الحق فهو الأمة الذي يجب أن يقتدى به ولو كان وحده. ويظهـر أن شيخ الإسلام رحمه الله قد اضطرب قوله في هذا، فمرة قال: إن كان هذا النبي أرسل إلى من خالف أمر الله ليبلغه رسالة الله فهو رسول، وإن كان يعمل بالشريعة قبله ولم يرسل إلى أحد يبلغه عن الله رسالة ربه فهو نبي وليس برسول.
فقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بهذا، ثم استدلاله بقوله سبحانه: ﴿وَمَآ أَرۡسَلۡنَا مِن قَبۡلِكَ مِن رَّسُولٖ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّآ إِذَا تَمَنَّىٰٓ أَلۡقَى ٱلشَّيۡطَٰنُ فِيٓ أُمۡنِيَّتِهِۦ﴾ [الحج: 52]. فإن هذه الآية تثبت إرسال النبي كما تثبت إرسال الرسول، فإن قوله:، أي وما أرسلنا من نبي. وهذا واضح جلي، فإن هذه الآية تنص على أن الله يرسل الأنبياء كما يرسل الرسل وهي تحقق ما قلنا، نظيره قوله: ﴿وَمَآ أَرۡسَلۡنَا فِي قَرۡيَةٖ مِّن نَّبِيٍّ إِلَّآ أَخَذۡنَآ أَهۡلَهَا بِٱلۡبَأۡسَآءِ وَٱلضَّرَّآءِ لَعَلَّهُمۡ يَضَّرَّعُونَ ٩٤﴾ [الأعراف: 94].
أخبر سبحانه أنه يرسل الأنبياء إلى أهل القرى، كما قال تعالى: ﴿كَانَ ٱلنَّاسُ أُمَّةٗ وَٰحِدَةٗ فَبَعَثَ ٱللَّهُ ٱلنَّبِيِّۧنَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ بِٱلۡحَقِّ لِيَحۡكُمَ بَيۡنَ ٱلنَّاسِ فِيمَا ٱخۡتَلَفُواْ فِيهِۚ ﴾ [البقرة: 213].
فوصف الله النبيين بصفة المرسلين لكون الأنبياء هم الرسل والرسل هم الأنبياء، نظيره قوله سبحانه: ﴿لَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا رُسُلَنَا بِٱلۡبَيِّنَٰتِ وَأَنزَلۡنَا مَعَهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡمِيزَانَ لِيَقُومَ ٱلنَّاسُ بِٱلۡقِسۡطِۖ﴾ [الحديد: 25].. فوصف الرسل بما وصف به الأنبياء من الإنذار والتبشير، وأنزل الكتاب عليهم بالحق ليحكموا بين الناس فيما اختلفوا فيه. فهم الوسطاء بين الله وبين خلقه في دعوة الناس إلى ما ينفعهم، وتحذيرهم عما يضرهم ﴿رُّسُلٗا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى ٱللَّهِ حُجَّةُۢ بَعۡدَ ٱلرُّسُلِۚ﴾ [النساء: 165]. أي خشية أن يقولوا: ﴿يَٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ قَدۡ جَآءَكُمۡ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمۡ عَلَىٰ فَتۡرَةٖ مِّنَ ٱلرُّسُلِ أَن تَقُولُواْ مَا جَآءَنَا مِنۢ بَشِيرٖ وَلَا نَذِيرٖۖ فَقَدۡ جَآءَكُم بَشِيرٞ وَنَذِيرٞۗ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ ١٩﴾ [المائدة: 19].
ولن يخفى أن كل نبي أُوحي إليه بشرع؛ فقد كلف بتبليغه وأرسل إلى الناس من أهل بلده ومن حوله ثم يدعوهم إلى دين الله، فهذا هو ثمرة النبوة التي من لوازمها الرسالة.
وإن هذا الكلام الذي ساقه شيخ الإسلام ليس مستندًا إلى دليل صحيح صريح من الكتاب والسنة يثبت لنا وجود أنبياء تنزل عليهم الملائكة بالوحي، وبشرع من الفرائض والحلال والحرام والأحكام ولم يؤمروا بتبليغه.
ويترجح بأن شيخ الإسلام متأثر بحديث أبي ذر الموضوع الذي فرّق بين الرسل والأنبياء، فميز الرسل بعددهم وميز الأنبياء بعددهم، كما تأثر به غيره حتى صار عقيدة وطريقة، وهو حديث موضوع -أي مكذوب على الرسول- وقد قال علماء الأصول: إن أوضح علامات الوضع كونه يخالف نص القرآن، والقرآن يثبت أن ﴿وَلَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا رُسُلٗا مِّن قَبۡلِكَ مِنۡهُم مَّن قَصَصۡنَا عَلَيۡكَ وَمِنۡهُم مَّن لَّمۡ نَقۡصُصۡ عَلَيۡكَۗ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأۡتِيَ بَِٔايَةٍ إِلَّا بِإِذۡنِ ٱللَّهِۚ فَإِذَا جَآءَ أَمۡرُ ٱللَّهِ قُضِيَ بِٱلۡحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ ٱلۡمُبۡطِلُونَ ٧٨﴾ [المؤمن: 78].
الشيخ عبدالله بن زيد آل محمود رحمه الله
مجموع الرسائل - القول السديد في تحقيق الأمر المفيد - المجلد (1)