هل حج الذين مروا بالمزدلفة دون النزول بها صحيح
؟
الآن، وفي هذا الزمان، فقد قصرت المسافات، وسهلت المواصلات بوسائل المراكب الهوائية والبرية، ودُكَّت عقبات التعويق، وقُطع دابر قطّاع الطريق، وشمل الناس الأمنُ المستتب في أنحاء الحرم، وسائر السبل المفضية إليه، فمن أجله قدم الناس إلى الحج من كل فج، فأقبلوا إليه يجأرون، وفي كل زمان يزيدون، فعظم الخطب واشتد الزحام، وصار الناس بعد انصرافهم من عرفة يسيرون مقسورين غير مختارين، يتحكم فيهم قائد السيارة، وشرطة نظام المرور، بحيث يمنعون السائق من الوقوف أو الانصراف عن طريقه، لكون أرض مزدلفة مملوءة بالناس والسيارات، وربما تمادى بهم سيرهم حتى يصلوا إلى المسجد الحرام، فيطوفون طواف الإفاضة وهم قد مروا بمزدلفة، لكنهم لم ينزلوا بها. ولأجله كثر السؤال عن حج هؤلاء، وهل هو صحيح أم لا؟
فالجواب: إننا على دين كفيل بحل مشاكل العالم، ما وقع في هذا الزمان وما سيقع بعد أزمان، ولو فكرنا فيه بإمعان ونظر، لوجدنا فيه الفرج عن هذا الحرج، وقد قيل: إن الحاجات هي أُم الاختراعات. لهذا يجب على العلماء الاجتهاد في تجديد النظر فيما يزيل عن أمتهم وقوع الخطر والضرر، والنبي ﷺ قد أرخص للظُّعُن والضعفة بأن يدفعوا بالليل، ويرموا الجمرة بالليل، كما ثبت في صحيح البخاري من حديث عائشة وحديث أسماء (بنتي أبي بكر) وحديث ابن عمر، وحديث ابن عباس.
وكما ثبت الدفع إلى مكة من حديث عائشة، قالت: أرسل النبي ﷺ أم سلمة ليلة المزدلفة، فرمت الجمرة قبل الفجر، ثم مضت فأفاضت. رواه أبو داود بإسناد على شرط مسلم. وكل الأحاديث الصحيحة في البخاري ومسلم والسنن لم تثبت تحديد المبيت بجزء من الليل، ولا تقييده بنصفه، كما قيده الفقهاء بذلك. وترجم له البخاري في صحيحه، ما عدا أن أسماء بنت أبي بكر قالت للذي يُرحلها: هل غاب القمر؟ فقال: لا. فأخذت تصلي. ثم قالت: هل غاب القمر؟ قال: نعم. قالت: فارتحلوا. قال: فارتحلنا، فمضت حتى رمت الجمرة وقالت: يا بنيّ: إن رسول الله ﷺ أذن للظُّعن. ومثله قاله ابن عمر، حين دفع من مزدلفة بأهله من الليل، وكلها لا تدل على تحديد ولا تقييد.
ونتيجة الجواب عن هذا السؤال: أن حج هؤلاء يعتبر صحيحًا بدون دم، إذ هو نظير ما فعلته أُم سلمة زوج النبي ﷺ كما في حديث عائشة، قالت: أرسل النبي ﷺ بأم سلمة ليلة النحر، فرمت الجمرة قبل الفجر، ثم مضت فأفاضت. رواه أبو داود وإسناده على شرط مسلم. وهو جنس ما فعله هؤلاء من دفعهم من مزدلفة إلى الجمرة، ثم إلى مكة لطواف الإفاضة بطريق القسر غير مختارين، وهو غاية وسعهم، والله لا يكلف نفسًا إلا وسعها.
الشيخ عبدالله بن زيد آل محمود رحمه الله
مجموع الرسائل - أحكام منسك حج بيت الله الحرام / الحكم في نزول مزدلفة والدفع منها - المجلد (2)