فتوى صاحب المنار في ذبائح أهل الكتاب
قال: إن المسألة ليست من المسائل التعبّدية، وإنه لا شيء من فروعها وجزئياتها يتعلق بروح الدين وجوهره؛ إلا تحريم الإهلال بالذبيحة لغير الله تعالى؛ لأن هذا من عبادة الوثنيين، وشعائر المشركين، فحرم أن نشايعهم عليه أو نشاركهم فيه. ولما كان أهل الكتاب قد ابتدعوا، وسرت إليهم عادات كثيرة من الوثنيين الذين دخلوا في دينهم، لا سيما النصرانية، وأراد الله تعالى أن نجاملهم، ولا نعاملهم معاملة المشركين استثنى طعامهم فأباحه لنا بلا شرط ولا قيد، كما أباح لنا التزوّج منهم، مع علمه بما هم عليه من نزعات الشرك التي صرّح فيها بقوله: ﴿سُبۡحَٰنَهُۥ وَتَعَٰلَىٰ عَمَّا يُشۡرِكُونَ ١٨﴾ [يونس: 18]. على أنه حرّم علينا التزوّج بالمشركات بالنص الصريح، ولم يحرّم علينا طعام المشركين بالنص الصريح، بل حرّم ما أهل به لغير الله، فأمر الزواج أهم من أمر الطعام في نفسه، والنص فيه عام قطعي في المشركين، وهو لم يمنع من التزوّج بالكتابية.
ولأجل كون حل طعام أهل الكتاب ورد مورد الاستثناء من المحرمات المذكورة بالتفصيل في سورة المائدة صرّح بعض أئمة السلف بأن النصراني إذا ذبح لكنيسته، فإن ذبيحته تؤكل، مع الإجماع على أن المسلم إذا ذبح وذكر اسم النبي أو الكعبة، فإن ذبيحته لا تؤكل، وترى هذا في تفسير الإمام ابن جرير الطبري، وما نقلناه في المنار عنه وعن غيره كاف في هذا الباب. وقد رأيت في التفسير من هذا الجزء النسبة بيننا وبين أهل الكتاب، وما ورد فيهم وما أرشدنا إليه- سبحانه- من مجاملتهم ومحاسنتهم.
فهذه هي الحكمة في حل طعامهم، لا كونهم يذبحون على وجه مخصوص أو يطبخون بكيفية مخصوصة، ولو كان يجوز لنا أن نقيّد نصوص الكتاب المطلقة بمثل هذا التقييد، لكان يجب علينا أن ننظر في كل حكم فنقول: إن إحلاله أو تحريمه بما إذا كان على الكيفية التي كانت في ذلك العصر، فنقيّد بما كان عليه أهل العصر الأوّل في جميع عاداتهم وأحوالهم؛ لأنهم خوطبوا بالأحكام وهم على ذلك. وهذا حرج عظيم، وتحكم لم يقل به أحد، بل قال أهل الأصول: حكم المطلق يجري على إطلاقه، ومن ثم نقول: إنه لا وجه للبحث عن عدد الذين أقيمت بهم الجمعة أو صلاة العيد، ولا عن كيفية المسجد أو المصلى الذي صُلي فيه عند التشريع، والحكم بأن ذلك شرط لصحة الصلاة.
ثم إن المشاغبين الممارين لا يقنعهم شيء، فأنت ترى أن فتوى الأستاذ الإمام لم تكن في حل الموقوذة من أهل الكتاب، ولا كان السؤال عن ذلك. وقد سمّوا الذبيحة موقوذة، وأكثروا من اللغو، ولا غرض لهم من ذلك إلا إيهام العامة بأن فلانًا قال قولاً مخالفًا للشرع؛ لعلمهم أن العوام لا يفهمون الدلائل، ولا يميزون بين الحق والباطل، وإنما يفهمون بالإجمال أن فلانًا أخطأ فيخوضون في عرضه. وهذه هي لذة الذين يحبّون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا؛ ولذلك لم يورد الذين كتبوا في هذه المسألة شيئًا من كلامنا المؤيد بالكتاب والسنة، وفقه الشريعة وأسرارها، والمأثور عن سلفها، لا بالتسليم ولا بالإنكار، فذرهم في خوضهم، واشتغالهم بالسفاسف، وصرفهم قلوب المسلمين عن كل نابغ فيهم، ساع في إقالتهم من عترتهم، وإنجائهم من هلكتهم، حتى يبلغ انتقام الله تعالى بهم منهم، حيث خذ بما صفا، ودع ما كدر، وادع إلى الحق من تراه مستعدًّا له والله الموفق. انتهى كلامه.
الشيخ عبدالله بن زيد آل محمود رحمه الله
من رسالة " فصل الخطاب في ذبائح أهل الكتاب " / فتوى صاحب المنار في ذبائح أهل الكتاب - المجلد (4)