الراجح في المقصود بالظالم لنفسه

والصحيح: أن الظالم لنفسه من هذه الأمة، كما جاءت به الأحاديث عن رسول الله ﷺ من طريق يشد بعضها بعضًا. من ذلك ما رواه الإمام أحمد، عن أبي الدرداء -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: قال الله تعالى: ﴿ثُمَّ أَوۡرَثۡنَا ٱلۡكِتَٰبَ ٱلَّذِينَ ٱصۡطَفَيۡنَا مِنۡ عِبَادِنَاۖ فَمِنۡهُمۡ ظَالِمٞ لِّنَفۡسِهِۦ وَمِنۡهُم مُّقۡتَصِدٞ وَمِنۡهُمۡ سَابِقُۢ بِٱلۡخَيۡرَٰتِ بِإِذۡنِ ٱللَّهِۚ ذَٰلِكَ هُوَ ٱلۡفَضۡلُ ٱلۡكَبِيرُ ٣٢﴾ [فاطر: 32]. فأما الذين سبقوا، فأولئك الذين يدخلون الجنة بغير حساب. وأما الذين اقتصدوا، فأولئك الذين يحبسون في طول المحشر، ثم هم الذين تلافاهم الله برحمته، فهم الذين يقولون: ﴿وَقَالُواْ ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ ٱلَّذِيٓ أَذۡهَبَ عَنَّا ٱلۡحَزَنَۖ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٞ شَكُورٌ ٣٤ ٱلَّذِيٓ أَحَلَّنَا دَارَ ٱلۡمُقَامَةِ مِن فَضۡلِهِۦ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٞ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٞ ٣٥﴾ [فاطر: 34-35]. وأيضًا ما رواه أبو داود الطيالسي، عن الصلت بن دينار بن الأشعث، عن عقبة ابن صهبان الهنائي، قال: سألت عائشة -رضي الله عنها- عن قوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَوۡرَثۡنَا ٱلۡكِتَٰبَ ٱلَّذِينَ ٱصۡطَفَيۡنَا مِنۡ عِبَادِنَاۖ فَمِنۡهُمۡ ظَالِمٞ لِّنَفۡسِهِۦ وَمِنۡهُم مُّقۡتَصِدٞ وَمِنۡهُمۡ سَابِقُۢ بِٱلۡخَيۡرَٰتِ بِإِذۡنِ ٱللَّهِۚ ذَٰلِكَ هُوَ ٱلۡفَضۡلُ ٱلۡكَبِيرُ ٣٢﴾ [فاطر: 32].. الآية. فقالت لي: يا بني، هؤلاء في الجنة. أما السابق بالخيرات، فمن مضى على عهد رسول الله ﷺ وشهد له رسول الله بالجنة. وأما المقتصد، فمن اتبع أثره من أصحابه حتى لحق بهم. وأما الظالم لنفسه فمثلي ومثلكم. قال: فجعلت نفسها -رضي الله عنها- معنا. وهذا منها -رضي الله عنها- من باب الهضم، والتواضع. وإلا فهي من أكبر السابقين بالخيرات. لأن فضلها على النساء، كفضل الثريد على سائر الطعام. هذا: وقد سيقت أحاديث أخرى، تدل على أن الأصناف الثلاثة المذكورة في الآية كلهم في الجنة، كما رجح ذلك ابن جرير في التفسير. وفحوى الآية، تدل على ذلك بالصراحة. وأنهم من هذه الأمّة، وكلهم في الجنة. فذكر سبحانه وراثتهم للكتاب، وهو منزلة عالية، وصفة سامية. ثم ذكر أنه -جلَّ وعلا- اصطفاهم. والاصطفاء: هو الصفوة من الشيء. فهم من صفوة الناس. ثم قال: ﴿ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلٗا لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱمۡرَأَتَ نُوحٖ وَٱمۡرَأَتَ لُوطٖۖ كَانَتَا تَحۡتَ عَبۡدَيۡنِ مِنۡ عِبَادِنَا صَٰلِحَيۡنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمۡ يُغۡنِيَا عَنۡهُمَا مِنَ ٱللَّهِ شَيۡ‍ٔٗا وَقِيلَ ٱدۡخُلَا ٱلنَّارَ مَعَ ٱلدَّٰخِلِينَ ١٠﴾ فأضافهم إضافة تشريف إلى نفسه الكريمة. ثم ختم الآية بقوله تعالى: ﴿جَنَّٰتُ عَدۡنٖ يَدۡخُلُونَهَا وَمَن صَلَحَ مِنۡ ءَابَآئِهِمۡ وَأَزۡوَٰجِهِمۡ وَذُرِّيَّٰتِهِمۡۖ وَٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ يَدۡخُلُونَ عَلَيۡهِم مِّن كُلِّ بَابٖ ٢٣﴾ ولم يستثن منهم الظالم لنفسه، لأن الناس كلهم ظالم لنفسه، وفي الدعاء المأثور، أن النبي ﷺ كان يقول: «اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني، إنك أنت الغفور الرحيم» وقد قال الصحابة للرسول ﷺ: يا رسول الله، أينا لم يظلم نفسه؟! ثم إن الله سبحانه أعقب هذه الآية بقوله: ﴿وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمۡ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقۡضَىٰ عَلَيۡهِمۡ فَيَمُوتُواْ وَلَا يُخَفَّفُ عَنۡهُم مِّنۡ عَذَابِهَاۚ كَذَٰلِكَ نَجۡزِي كُلَّ كَفُورٖ ٣٦﴾ [فاطر: 36]. مما يدل على أن الأقسام الثلاثة المذكورة قبلهم، أنهم كلهم من أهل الجنة؛ لكون القرآن الكريم مثاني، إذا ذكر أهل الجنة، ثنّى بذكر أهل النار، ليكون المؤمن راجيًا خائفًا.
الشيخ عبدالله بن زيد آل محمود رحمه الله
مجموع الرسائل - تثقيف الأذهان بعقيدة الإسلام والإيمان / " انقلاب الإيمان نورًا لأهله يوم القيامة " - المجلد 1